سؤال: كيف يمكن للمؤمن أن يمتلك القدرة على تطوير العلاقات القائمة على أسس الحب والاحترام والتقدير مع محيطه؟
الجواب: الحب هو جوهر الوجود، وقد خلقَ الحقُّ تعالى الوجود تعبيرًا عن حب ذاته؛ وخلق الإنسانَ باعتباره فهرسًا لهذه العوالم العظيمة، وجوهرَها وعصارتَها، لكن هذا الحبَّ مقدّسٌ وطاهر، ولا يشبه حبّنا؛ لأن الحب الذي نعيشُه إما أنه تعبير عن ضعف ونزعات لا نملكها، وإما أنه شعورٌ صار عبر معالجته جانبًا من طبيعتنا وشخصيتنا، ويستحيل إسناد أيٍّ من هذه الأمور إلى الذات الإلهية، ولذلك نقول -تنزيهًا للذات الإلهية- إنه خلقَ الوجودَ تعبيرًا عن حبٍّ طاهرٍ ومقدّس ومبرّأ، ومن ذلك ما رُوِيَ في الأثر على أنه حديث قدسي: “كُنْتُ كَنْزًا لَا أُعْرَفُ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ خَلْقًا فَعَرَّفْتُهُمْ بِي فَعَرَفُونِي“[1].
وهذا الأثر حتى وإن لم يُعضد بسندٍ متصلٍ فإنه صحيحٌ بالنظر إلى معناه، فهو يقرّر معنى هذه الآية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/56) وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما لفظة “ليعبدون” على أنها “ليعرفون”، وفي هذه الحالة يكون معنى الآية هكذا: “لقد خلقت الجن والإنس صِرفًا ليعرفوني وليعبدوني”، والواقع أنَّ معرفة الحق تعالى حقَّ المعرفة والاطلاعَ على كنه ذاته القدسية، والوقوفَ على أسرار ربوبيته، أي على تصرفه وشؤونه في الكون؛ سيوجِّه الإنسان إلى العبودية والمحبة.. وقد قال الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “إنَّ أسمى غايات الوجود هي الإيمان بالله ومعرفة الله ومحبته، والتي هي أسمى وأجلّ ثمار الفطرة”[2].
أجل، كما أن الحب هو جوهر الوجود وعُصارته، فهو عنصر حيوي للغاية بالنسبة للإنسان؛ فهو يعيش بالحب، ويصبح سعيدًا بالحب ويجعل بيئته سعيدة بالحب، ولا يوجد علاقة بين الناس أقوى من الحب، ويستحيل على أي إنسان محروم من الحب والرحمة أن يرتقي روحيًّا، ويصل إلى مرتبة الكمال، فالحب أساسٌ حيوي للغاية، وخاصة بالنسبة لورثة المنهاج النبوي؛ إذ لا يوجد طريق مختصر لفتح قلوب الناس أقصر من الحب.
الحب المنطقي
وليس الحبُّ بالأمر السهل، وبما أنّ الإنسان مخلوقٌ صاحب إرادة فهو بحاجة إلى التمرين والتأهيل في هذا الشأن، لذا فعليه أن يبحث عن كل الوسائل التي تفتح أبواب قلبه للآخرين، ويأخذها بعين الاعتبار، وبعبارة أخرى: فالحب الموجودُ بين المخلوقات الأخرى كـ”لطفٍ جبري” يتوقّف انتشاره بين البشر على الجهد والسعي إلى تحققه، فإذا تحقق الإصرار على هذه المسألة وأُحكِم الحفاظ بقوةٍ على علاقات الحب القائمة يمكن أن يصبح جزءًا من الطبيعة البشرية مع مرور الوقت، بعد ذلك يصعُب اقتلاعه وطرحه، ويتحول مَنْ نُحِبُّهم إلى قيمة بالنسبة لنا تعدل الحاجة بل وحتى الضرورة، إنهم عندما يتركوننا ونحن على هذا الحال فإننا نشعر في أعماقنا بوحشة تركهم إيّانا، فرَحُهم سيكون فرَحُنا، وحزنُهم سيكون حزنُنا، وكأننا بدأنا نشاركهم حياتهم.. بعد ذلك يتدثر حب الإنسان بدثار منطقي ويصير أكثر قوة، ومثل هذا الحب مختلف للغاية عن الحب العاطفي والمجازي الذي يكون بملاطفة الناس والظهور أمامهم بمظهر جذاب، ويُسمّى هذا بـ”الـحب السطحي”.
حقًّا، كي يستقر الحب الحالي العاطفي على أساس منطقي يجب النزولُ إلى أسبابه وأخذُها بعين الاعتبار، والتفكيرُ فيها وإسنادُها إلى أساس عقلاني.. وعلى سبيل المثال؛ يُعَدُّ الاجتماع على الأرضية المشتركة للإنسانية أحد الأسباب الأكثر عموميّة وأهمية والتي تستدعي حبَّ جميع الناس ومودّتهم، فإذا لم يُعتبر الاتصاف بالإنسانية وتقاسم الكرة الأرضية رابطًا مهمًّا يقتضي الحب، ولم يشعر الناس بالحب والمودة بعضهم تجاه بعض لمجرد كونهم بشرًا فحسب، وبرزت مظاهر الحقد والعداوة بدلًا من ذلك كانت عواقب هذا وخيمة وفادحة؛ لا سيما في هذا العالم الذي أصبح اليوم قرية صغيرة.
ولِجعلِ العالم مكانًا أكثر ملاءمة للعيش اليوم، صار من الضروري إرساء السلم والسلام على مستوى البشرية جمعاء ومدّ جسور التسامح والحوار بين الناس من مختلف الديانات والقوميات، ولا ريب في أن الناس بحاجة إلى مساعدة ودعم بعضهم البعض لتحقيق ذلك، فليس ممكنًا تحقيق هذه الأهداف المشتركة في عالم يسوده الحقد والكراهية بدلًا من الحب.
إن الإنسانية اليوم تتوقُ لمثل هذا الحب والعطف، فالوحشيّةُ تعمّ الأرجاء، وهناك عمليات إبادة جماعية في مختلف أنحاء العالم، ونرى شتى أنواع الشناعة والدناءة تُرتَكَبُ في حق الإنسانية، ولا يصدح في الأنحاء يمنة ويسرة سوى ضوضاء الظالمين الطغاة وصخبهم، وأنين المظلومين والضحايا، يفكر الناس في الدم ويشرب بعضُهم دماء بعضٍ، يبدو الأمر كما لو أن العالم قد عُهد بأمره إلى القتَلة، لقد أُثيرت الكراهية والأحقاد التاريخية، وصار الناس بعضُهم لبعض عدو، الجميع يبحث عن ذريعة للتغلّب على غيره وتعزيز هيمنته عليه.
أعتقد أن إعادة إحياء المحبة -التي هي حقيقة مهمة للغاية في عالم هكذا- وضمان أن يتعاون الناس من جديد سيكون أعظم هدية تقدمها أمّتُنا للبشرية، إذا كنتم تطمحون إلى المحبة فيجبُ عليكم أن تفتحوا صدوركم للجميع وتحتضنوا البشرية جمعاء، يجب أن تسعوا إلى تحقيق تفاهمٍ واتفاق على مستوى البشرية جمعاء، ولكن لنعلم أن الأمر سيستغرق وقتًا، فهذا لا يحدث فجأة، من الضروري الصبرُ والسعيُ بعطفٍ وحذرٍ لفترة طويلة لحل المشكلات المزمنة والتخلّص منها.
وبالمثل، فإن هناك وسائل للمحبّة، ومن ذلك الإيمان بوجود الله وبوحدانيته، وأن نكون من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الارتباط بفلسفة الخدمة، فمثلًا يمكن للمرء عندما ينظر إلى إخوته المؤمنين أن يفكر على النحو التالي: “هؤلاء سيكونون رفاقي في الدار الآخرة، سنكون معًا في المحشر، وعند الميزان، سوف نعبر الصراط معًا، سنذهب إلى الجنة معًا، من يدري، ربما سيأخذون بيدي هناك أيضًا، سوف يشفعون لي بإذن الله حيث أكون في ضيق شديد جدًّا”، وبما أن مثل هذه الأسباب تقتضي الأخوّة والحب، فإن التركيز عليها والتفكير حولها سيؤدي إلى الحب.
عندما ينظر المرء إلى أشخاص يسيرون في مسار واحد ويتقاسمون فلسفة خدمة واحدة، ويقول: “إذا أمسك بعضنا بأيدي بعض، وحافظْنا على وفاقنا وتحالفنا، تسنّى لنا حل العديد من المشكلات بإذن الله، يمكننا أن نحقق أهدافنا بشكل أسرع من خلال دعم بعضنا بعضًا”، كما أن اعتباره وجود إخوته ضرورةً بالنسبة له تتجاوز مجرّد الحاجة سيجعله أكثر ارتباطًا برفاقه وسيعزز أواصر الحب بينهم.
ذلك لأنه كلما زادت الأسباب التي تتطلب المحبة بين الناس كلما كان حبهم لبعضهم وعلاقتهم تجاه بعضهم أعمق وأوطد.. فمن الطبيعيّ أن يرتبط السائرون في نفس المسار والمهمومون بنفس الغاية المثالية مع بعضهم بروابط أقوى، وكلما ركّز المرء على هذه الأسباب التي تقتضي المحبة والأخوة وفصَّل المسألة بهذه الطريقة، أحبَّ إخوانه ورفاقه من صميم قلبه، وقرّر “لا أستطيع أن أفعل ذلك بدون إخواني”.
إذا لم تقفوا على أسباب المحبة ولم تفصّلوها وتركزوا عليها بهذه الطريقة؛ فسيظل حبّكم مجرد حس وشعورٍ، فالعاطفة والحب الحسي الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخرين إنما هو محدود، لأنه مهما بدا الحبُّ العاطفي قويًّا فربما يتحطّم بسبب شعور آخر أقوى، وعليه فإن الأصل والضروري هو الحب المنطقي، والعشق المنطقي، والاشتياق المنطقي؛ لأن الحب المرتبطَ بمنطق معيّنٍ ليس من السهل أن يزول، لا ينبغي أن يُفهم من هذا أنه ليست هناك أية قيمة للعلاقة العاطفية. بالطبع لها قيمة بقدرها ووفقًا لها، ولكن المهم هو تقوية المحبة العاطفية وتعزيزها بالعقل والمنطق.
معالجة المسائل بإنصاف
من الممكن أيضًا معالجة المشكلة من الاتجاه المعاكس، أي كما أن هناك العشرات، وربما المئات من الأسباب التي تتطلب الحب والإخاء فإن معظم الأعمال العدائية والصراعات القائمة بين الناس عندما يتم تناولها بعناية يتضح أنها لا تستند إلى أساس مهم، لسبب ما قد يشعر الشخص بالكراهية والغضب والحقد ضد بعض الأشخاص أو الجماعات، قد يتخذ موقفًا ضدّ بعض الناس بسبب أحوالهم وأفعالهم، ربما أنه لا يستسيغهم، ولكنه عندما تتم مناقشة هذه الأعمال العدائية بتفصيل، سيتبين أن معظمَها ليس له سببٌ وجيه.
تُرى هل يوجد بعضُ السلوكيات المخالفة لروح الإسلام لدى من تشعرون تجاههم بمشاعر سلبية؟! هل يرتكبون محرّمًا؟ هل يتوانون في تنفيذ ما يجب عليهم من التزامات؟ هل يعصون الله في شيءٍ؟ هل هناك ما يُقلق في علاقتهم وصلتهم بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يسيئون إلى المقدسات؟ عندما يتم تفصيل القول في المسألة بهذه الطريقة، سيتبين أن مظاهر الكراهية والغضب التي بين الناس لا تنجم في معظم الوقت عن أي من هذه الأشياء المذكورة آنفًا؛ على العكس من ذلك، سوف نرى أنها تستند إلى اختلافات في المزاج ومجموعة من الآراء والتوقعات والخيارات المتباينة؛ فمثلًا قد لا تروقُنا أحوال البعض وحركاتهم، ربما أنها لطيفة ونحن مخطئون، إذا اتخذنا موقفًا ضدّ مَنْ حولنا بسبب قضايا فارغة وغير مهمّة ولا تستند إلى الحقيقة، فهذا يعني أننا ظلمناهم وجُرنا عليهم.
في بعض الحالات قد نشهد أن الأشخاص مِن حولنا يقومون بأشياء لا ينبغي لهم القيام بها، أو أنهم لا يقومون بالمهام المنوطة بهم، في مثل هذه الحالات يجب ألّا نتجاهل حقيقة أن الناس لا يمكن أن يتبعوا خطًّا مستقيمًا دائمًا من حيث طبيعتهم وعوالمهم الحسية، وأنهم قد يواجهون بعضًا من الانحرافات، فيجب التغاضي عن هذه الأحوال بقدر الإمكان، وألا نترصّد كل أخطائهم، يجب أن نمنحهم مهلة لمراجعة أنفسهم من جديد، واستجماع عقولهم، وإصلاح أخطائهم، فحتى هنا يجب أن نتعامل مع المشكلة بلغة المحبة وقوّتها وأُسُسِها، فلا شيءَ يصعبُ حلُّه إذا ما عولِجَ بالمحبّة، حتى الأقفال الصدأة منذ ألف عام يتسنى حلها عن طريق المحبة.
الواقع أنَّ ما يجب فعله بالنسبة لمَنْ يُضخِّم أخطاء أصدقائه البسيطة ويتخذ بسببها موقفًا تجاههم هو أن ينظر إلى نفسه أولًا؛ فالعديد منا مِمَّن يقومون بمراجعة مواقفهم وسلوكياتهم بشعور جاد من المحاسبة سوف يلاحظون أنهم أنفسهم لديهم العديد من المواقف والسلوكيات التي لا يشعرون إزاءها بالراحة إذا ما صدرت عن الآخرين، وبالتالي يتعلمون النظر إلى الأخطاء والعيوب بتسامح، لأنه سيكون من الغريب إدانة الآخرين واتخاذ موقف ضدهم بسبب مواقف وسلوكيات سلبية موجودة في أنفسنا أيضًا.
تقوية الحبّ
ذات يوم وبينما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه مرَّ أمامهم رَجُلٌ، فقال أحد الجالسين وأومأ إلى الرجل: يا رسول الله، إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أعلمتَه؟” قال: لا، قال: “أعلِمْهُ” قال: فلحِقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له”[3]؛ ذلك أنه يروقُ كلّ إنسانٍ معرفته أنه محبوب من قِبَل صاحبه، هذا شعورٌ جِبلِّي، فالتعبيرُ عن مشاعر الحب تجاه الآخر سيقوّي أواصر الصداقة ويتوّج مشاعر الحب.
إلى جانب ذلك، فإن الدعاء للأحباب بظهرِ الغيبِ عاملٌ آخر يزيد من الحب، إنَّ رفعَ إنسان يديه في مكان خاص لا يراه فيه أحَدٌ، ودعاءَه: “اللهم أَسعِد فلانًا بالفردوس، واجعل حياتَه في الدنيا مثل الحياة في الجنة!”، لا بد وأنه ضرورة من ضروريات حبّه ووفائِه لذلك المدعوِّ له، علاوة على ذلك فقد بيَّن نبينا صلى الله عليه وسلم مدى أهمّية هذا النوع من الدعاء عند الذات الإلهية فقال: “أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ“[4].
من جهة أخرى، من المهم أيضًا أن نعرب عن حسن ظننا بمن نحبهم ونشهد لهم شهادة حسنة أمام الآخرين، فمثلًا عندما نقول: “الصديقُ الفلانيّ شخصٌ صادقٌ ومخلصٌ للغاية، أعتقدُ أنه كيانٌ مهمّ جدًّا في الدعوة لإعلاء كلمة الله”؛ نكون قد أبرزنا أنَّ مَنْ تحدثنا عنه شخص يجب تقديره ومحبته، ولا بأس في قول هذا طالما أننا نقول شيئًا حقًّا ولا نكذب في الأمر! لا سيما أن هذه الأمور ستربط القلوب ببعضها، وستزيد من المحبة.
إذا كان أصدقاؤنا ينفتحون على جميع أنحاء العالم ويخدمون فيها بشعور من التضحية والإخلاص، فلماذا لا نُحدِّث الناس عن ذلك؟ على العكس، يجب علينا أن نُحدِّث بذلك، لأننا في ظل هذا نكون قد قدمنا هؤلاء الناس الطيبين إلى الآخرين وحبَّبناهم إليهم، وكما يقول المثل الشعبي: “إن للجدران آذانًا”، فعباراتنا الإطرائية والتقديرية الصادقة من هذا النوع ربما تنتقل إلى آذانهم بتردّد لا نعرفه، فتزيد من المحبة بينهم وبيننا.
نعم، إذا تطوع شخص لدعوة آمن وأيقن بها، وألزم نفسه بها، ولم يتخلّ عنها لمدة ثلاثين أو أربعين سنة، كان حقًّا على الجميع أن يقبِّل رأسه، إنه إخلاص وولاء مهم للغاية، وفضيلة عظيمة يجب تقديرها وإخبار الآخرين بها، لذا فإنه يجب علينا -من جانب- الدعاء بأن تُقبِّل الملائكةُ رؤوسَ أمثال هؤلاء، وأن نعطيهم قيمتهم التي يستحقونها من جانب آخر.
ولكننا إذا أثنينا على أصدقائنا، وذكرنا فضائلهم باستمرار وصرنا مدَّاحين لهم فلا ينبغي لنا أن ننتظر الشيء نفسه منهم، علينا أن نفعل كل هذا دون مقابل، لأننا نُعلي من شأن خاطر الحق، ونذكر أمام الآخرين الحقائق التي نعلمها، نحن نقدر مَنْ يخدمون قيمنا وغايتنا المثالية، الذين يدعون إلى الله ورسوله، لأن هذه هي الأشياء التي نريدها، ولكن سواء فعلوا الشيء نفسه أم لا، اعترفوا لنا بنفس الفضل أم لا، فهذا شأنهم، ولا يعنينا في شيء.
التوازن في الحب
إن أهمية الحفاظ على التوازن في الحب بقدر أهمية الحب نفسه، فالمؤمن يجب أن يحب الحق تعالى حدَّ الوَلَهِ في إطار جميع المعاني التي تعبّر عنها أسماء الله الحسنى، وأن يتأجّج بحبّه، إلا أنه ينبغي له أن يحافظ على الميزان في حبه لما سوى الله تعالى، لأنّ حبَّ الله فريدٌ في نوعه، ولا أحدَ يجدرُ أن نحبه كما نحبُّ الله، ذلك أن المشركين قد انتقدهم القرآن الكريم وعابهم لأنهم يحبون أوثانهم كما يحبون الله[5]، فالله تعالى المحيط بكل شيء ولا يحيطه أيُّ شيءٍ يجب أن يكون حبّه لا محدودًا ولا متناهيًا، إنه أسمى من مفهوم المستويات، وكلُّ ما سواه يكون بحسب مستواه.
على سبيل المثال يستحيل ألا يحب المؤمن بِوَلهٍ مفخرةَ الإنسانية مطمحَ نظر الله، ومرآة الأسماء الحسنى المجلاة، الذي عرّفنا بالله بشكل تام غير منقوص باعتبار أوامره التكوينية وأحكامه التشريعية، وكذلك أيضًا يحمل المؤمن محبة خاصة إزاء الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام إضافةً إلى حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب ذلك هناك مكان متميز في قلب المؤمن للمسلمين الذين يتجه معهم إلى قبلة واحدة، ولجميع الناس الذين يرى كلَّ واحد منهم عملًا فنّيًّا من صنع الله، لكن حب الله يجب أن يكون هو مصدر كل أنواع هذه المحبة، ويجب الحفاظ على التوزان في هؤلاء، وإلا فيُخشى أن ننالَ صفعةً بخلاف المقصد المراد.
من المؤسف أن هناك تطرّفًا في مواقف الناس وسلوكيّاتهم تجاه بعض الأشخاص؛ فقد يحظى بعض الناس بحب مفرط، كما أن البعض قد يُرفع إلى عنان السماء بسبب الحالة الروحية للجماعة، أو يُنظر إليهم وكأنهم نزلوا من السماء، وربما يقع إفراط في الأمر بالتقدير والمديح الموجه لهم، لكن ينبغي العلم بأنه عندما يقدم الإنسان مشاعر الحبّ لمن لا يستحقّها؛ فإن الله تعالى يصفعُه بأيدي هؤلاء الأشخاص، وهكذا فإنه من ناحية، يعاقبه على هذا الحبّ المفرط، ومن ناحية أخرى يظهر له أنَّ من أفرط لهم في المودة ليسوا جديرين بذلك إلى هذا الحد.
والواقع أن كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التالي يضع معيارًا مهمًّا في هذه القضية؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام: “أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا“[6].
إذا كان الإنسان لا يريد أن يشعر بالخجل عندما يتحول الأمر إلى العكس، وألا يطأطئ رأسه، وألا يلوم نفسه فعليه ألا يضحي بالمعيار والاتزان في حبه، وبالطريقة نفسها فإنَّ مَنْ يبغض البعض لأنهم يحملون صفات سيئة، ويضع بينه وبينهم مسافة ينبغي له ألا يتجاوز الحد، وألا يدمر الجسور تمامًا، وألا يقطع علاقته بهم نهائيًّا، كي لا يندم الطرفان إذا ما زالت الخلافات ورجعوا إلى صوابهم ذات يوم.
من ناحية أخرى إذا أفرطتم في حبكم وجنحتم إلى المبالغة في تقديركم تكسرون عنق أخيكم على حد تعبير الحديث[7]، ويقول فضيلة الأستاذ بديع الزمان “أنا لا أُعجب بنفسي، أنا لا أعجب بأولئك الذين يُعجبون بي”، ليس كل شخص لديه مثل هذه الطبيعة الناضجة، ربما أن أنظمة الهضم لدى مَن لا تربطهم علاقات قوية بالله لم تتطور بما يكفي لاستيعاب هذا الثناء والتقدير، لهذا ربما ينهزمون أمام أنفسِهم، وينزلِقون في مراتع الفخر والغرور، وفي هذا الصدد جاء الأستاذ بهذا المبدأ: “يا إخوتي الأحبة! الثبات الثبات، الوفاء الوفاء… إن طريقنا في السمو والرقي هو الغلو في الارتباط والتساند فيما بيننا والسعي لنيل الإخلاص والأخوة الحقة، بدلًا من الغلو في حسن الظن والتطلع إلى مقامات أعلى من حدنا”[8].
ومعنى هذا: عليكم ألا تتخلوا عن رفقاء دربكم حتى وإن رأيتم فيهم خمسين عيبًا، عليكم أن تُمسكوا بأيدي رفاقكم الذين ترونهم تخلفوا عنكم، وتساعدوهم، فإن كانوا لا يستطيعون المسير معكم بنفس الخطى، ويتأخرون عنكم فعليكم أن تحملوهم على ظهوركم.
وبالمثل، يجب أن يحذر المؤمن جدًّا في التعبير عن حبه وعلاقته بأولئك الذين يعتبرهم “عظامًا”، وبغضّ النظر عن مدى عمق احترامه وحبّه وامتنانه لهم، وأيًّا كانت المكانة التي يرسمها لهم في عقله؛ فيجب عليه أن يكون حذرًا للغاية عند التحدث عنهم أمام الآخرين، وألا يخوض في عبارات مبالغٍ فيها، ينبغي ألا يدفع الآخرين إلى مشاعر الحسد والمنافسة من خلال إطلاقه على ذلك الشخص ألقابًا مثل “الغوث” و”القطب”، لأن كل واحدٍ يحترم مرشدَه وشيخَه ويضعه على واحدة من درجات الترقي، فإذا قمتم برفع شخص إلى جواره، فإنكم تضعونه في منافسة وتجعلونه يقول “لا، بل صاحبُنا أعظم”، وحتى ولو لم يقل ذلك أمامكم، فإنكم تؤدون به إلى أن يغتابك، ولذلك فإنكم تزجّون به في الخطيئة بهذا التصرّف، ولذا يجب أن يكون الأساس هو الإخلاص لمن تسيرون على دربهم، والالتزام بالقضية التي تتقاسمونها معهم، وليس منحُهم مراتب على خلاف العادة.
[1] أنكره كثيرون واشتهر عند كثيرين، وقد أورده الآمدي معتَمَدًا في الإحكام في أصول الأحكام، 1/13.
[2] بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، ص 253.
[3] سنن أبي داود، الأدب، 122.
[4] ابن أبي شيبة: المصنف، 6/21.
[5] انظر: سورة البقرة: 2/165.
[6] سنن الترمذي، ِالبر، 60.
[7] صحيح البخاري، الشهادات، 16.
[8] بديع الزمان سعيد النورسي: الملاحق، ص 122.
Yazının Kaynağı: http://www.herkul.org/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9/%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%8e%d8%b1%d9%91%d9%8e%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%ae%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%80%d8%ad%d9%8f%d8%a8%d9%91/
Hiç yorum yok:
Yorum Gönder